لو سألنا: ما هي الأرضية التي لا تنمو الصداقة إلاّ عليها؟
لكان الجواب قطعاً: التواضع، فبدون التواضع كيف يمكن أن يجتمع قلبان؟
ولو سألنا: ما هو التواضع؟ لكان الجواب: إنه ليس علماً يُقرأ، ولا نظريّة تُحفظ، ولا محاضرة تُلقى، إنّما التواضع فنّ يحتاج الإنسان إلى التدرّب عليه.
ومن السهولة أن يعرف الإنسان شيئاً من الزاوية النظرية، ولكن الصعب هو أن يتدرّب عليه، حتى يصبح ملكة بالنسبة له، وجزءاً من تصرّفاته الطبيعية.
إذ يمكنك، خلال دقيقة واحدة أن تتعلّم كيف تقود السيارة نظرياً، إلاّ أنّك تحتاج من الوقت ساعات لِلتدريب كي تتعلم قيادة السيارة بشكل عملي.
هكذا التواضع، فمعرفة أصوله وطريقته لا تستغرق وقتاً، ولكنّها بحاجة إلى فترة طويلة حتى يتعلمه الإنسان عملياً، ويصبح جزءاً طبيعياً من تصرّفاته.
والآن ما هو المقصود بالتواضع؟ وإلى أيّ حدّ يكون؟
دينياً التواضع يعني قبول الذلّة بين المؤمنين كما يقول القرآن الكريم: (أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ) (المائدة/ 54).
والذلّة تعني التصاغر أمام المؤمنين، كما تعني الاحترام، والتواضع له.
وهناك فرق شاسع بين الذلّة النابعة من موقع الاحترام، والذلة النابعة من موقع الحقارة. فالثانية تعني الذلة المصحوبة بالشعور بالخسة والدناءة والتصاغر، وفي ما نراه من خضوع مزيّف من قبل الجلاوزة للحاكم المستبدّ مثلاً.
أمّا التواضع فهو الخضوع النابع من الشعور بالاحترام للآخرين، والاعتزاز بهم، فحينما يشعر الإنسان أنّه عبد كريم لله، وأن تواضع لإخوانه المؤمنين إنّما هو تواضع لله، فإنّه في الحقيقة يشعر بالعزّة والرفعة.
وقد وصف الإمام علي(ع) هذه الحالة في الإنسان المؤمن بكلمات رائعة، فقال: (سهل الخليقة، ليّن العريكة، نفسه أصلب من الصلد، وهو أذلّ من العبد".
إذاً، التواضع المطلوب، وهو الذلّة النابعة من نفس أصلب من الصلد، وليست الذلّة التي يكتنفها شعور بالنقص والضعف والحاجة للآخرين.
على أن هناك أفراداً يشعرون بالزهو إذا تذلّل لهم الناس، وقد يشعرون بأنّهم فعلاً "أعلى" من الآخرين، و "أعظم" منهم، وأن لهم حقاً طبيعياً في تواضع الناس لهم. إلاّ أن هذه الحالة الاستعلائية مرفوضة بين الناس، ومن هنا فإن أي تواضع لا ينبع من "العزّة" النفسية أمر مرفوض.
إذاً، من التواضع ألاّ يسمح الإنسان للآخرين أن يستذلوا أمامه.
إن التواضع هو أن تفعل للناس ما تتوقعه من الناس، وأن تكون فيهم كأحدهم، تبسط لهم جناح الذلّ من الرحمة، ترضى بالجلوس في أيّ مكان ينتهي بك المجلس. وأن تتذكّر دائماً أن قيمة المكان بالمكين وليس العكس.
حاصل القول إن الإنسان إذا كانت له مكانة رفيعة فإنه أينما يجلس سيتحول ذلك المكان إلى زجاجة عطر يفوح منها أريج الورد، وإن لم تكن له قيمة فإن المكان لا يزيده شرفاً.
يقول الإمام الصادق(ع): (إن من التواضع أن يجلس الرجل دون شرفه).
ومن التواضع: أن تجلس على الأرض.
وقال رسول الله(ص): "إن الصدقة تزيد صاحبها كثرة، فتصدقوا يرحمكم الله، وإن التواضع يزيد صاحبه رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله، وإن العفو يزيد صاحبه عزاً فاعفوا يعزّكم الله".
وقال (ع) لأصحابه: (مالي لا أرى عليكم حلاوة العبادة؟".
قالوا: وما حلاوة العبادة؟
قال: "التواضع".
ومن التواضع أن تحمل حاجاتك بيديك.